كتب / محمد فيض خالد لم أجد من يفنى عشقا في العصا كعشقه، تنتعش روحه وتزهو، وهو يجد في نفسه الفتوة الكاملة، يتعاظم شعور “أبوحطب” -هكذا يطلق عليه في القرية- حين يمسك بالعصا، يقلبها بين يديه يلاعبها في خفة واستعراض، يظن ساعتها في قرارته أنه بلغ حد الكمال، وهو في سبيل ذلك لا يستنكف احتقار الآخرين والتهوين من شأنهم، يتعالى هتافه :” العصا لها رجالها “. يتعالى ضحكه في هستيريا، تشيعه أمه بعين دافئة، فما أهنأها و هي ترى وحيدها أنه قد بلغ مبلغ الشجعان، تظل قامته القصيرة عقدته الأبدية، ورثها عن أخواله “الجعارنة” فيما ورث من صفات، يضيق حرجا تلاحقه كسبة ونقيصة، ينفك عنها أحيانا، فيغض الطرف عن غمز الناس ولمزهم، تراه يشيح بوجهه مستكبرا، يحرك ذراعيه في خفقان متواصل، يضربُ بهما جنبيه كَصقرٍ فتي، تغمر الابتسامة مُحيّاه الأسمر، تلمع ثناياه البيض في توهج لافت، يدك الأرض في عنفوان تحت عصاه،التي لايتركها من يده حتى يدخل فراشه. يتغنى في قبضته المستميتة، يشمر كم جلبابه الواسع في استعراض ممجوج، يتباهى بزنده القصير المكتنز بالعضل كفرع سنط يابس، عائلة “أبو حطب” صغيرة، نبت والده كُغصنٍ هزيل، يفرض نفسه وعصاه كبديل يعوض هذه العزوة وسط أنداده، بمرور الأيام تزداد شراسته، يتنامى إحساسه في كل لحظة أن يصبح عملاقا يخيف الخصوم، في استطاعته كسر هيبة الجميع وتحريك القرية بإشارة من عصاه، يلجم الكبير والصغير بنظرة عين، يخرس ألسنتهم التي تلعقه في اجتراء، يتصنع كثيرا ليظهر بوجه عبوس صارم، وملامح متحجرة قاسية، وصمت طويل، يتخير صدر المجلس تدور عيناه في تبجح مثير. على دراية تامة بما يحاك في ظهره من همز لاذع، ونكات فاحشة، واستخفاف سمج، مبكرا عرف رفاقه غطرسته، فاتخذوه هدفا صريحا يستخفون منه، حتى وإن منحوه قليل اهتمام، حتى وإن تغزلوا في عصاه المشرعة في فوضى مخيفة، فهم في الأخير لا يبغون غير الفرجة والتلهية من هذا القزم المتهور. يغشى أعراس القرية لا يفوت فرحا، تعرفه القرى المجاورة بفتى الحطبة الطائش، فعصاه لا تفرق في طيشها بين عصا الخصم ومصابيح الإنارة، تواجده كاف لأن يقلب الفرح إلى مشاجرة، فاستفزازه المستمر، وعصاه التي تحرن في استهانة، لا تهدأ حتى توقد الحمية في صدور الخصوم، تشخص إليه عشرات العصي تريد منازلته. لكنه من الفطنة لأن يتخير منافسه في كبرياء وأنفة، في الغالب يكون أطولهم قامة، يشعر في قرارته بالنقص فلا سبيل لتخطي هذه الزلة، بغير تصرفات صبيانية يحدثها، تدور رحى النزال في أجواء من التحفيز، تطيش أكثر الضربات، تتعالى معها آهات الجمهور الذي تحلق حول الفارسين في حماس موصول، يقفز كقرد صغير وابتسامة تغمر وجهه يراوغ أكثر من مرة، حين يعلم ضراوة منافسه، لكنه أذكى من أن يهزم، يبدأ في احتياله فيختلق مشكلة لينجو بسلام. في تطلع دائم لمصاهرة عائلة “الدكش” يردد في ارتياح: “من يتزوج من هؤلاء لابد وأن تلد زوجته قاعود “، فهياكلهم الضخمة، وأبدانهم الصلبة، وبأسهم الشديد، يرى فيها بغيته،كانت “خديجة” من نصيبه، فتاة قوية البنية، ضخمة العجيزة، ممتلئة الصدر ، وافرة البطن، ووجه أحمر ينضح دما، لا يجد في غضاضة في السير إلى جوارها، حتى وإن شيعته العيون باستخفاف، سارت هكذا بينهما الحياة،حتى ضاق البيت بالذرية، كانوا على غير مرامه، فهم قصار القامة في سمرة منفرة، مع كل بطن يشتهي أن يأتيه فتاه شبيها لأخواله حتى يئس من حاله، فما كان منه إلا أن هجر أمانيه القديمة، حتى عصاه أهملها، وجدت طريقها خلف الباب، وفي يد الصبيان، ملقاة تدوسها الأقدام تلطخها فضلات الطيور في تقزز، انقطع عن الأعراس وأصبحت اضوائها باهتة في نظره، اتخذ لنفسه مجلسا تحت الكافورة الكبيرة يلعب “السيجة”مع صحبة العجائز، لا تسمع غير قهقهة ترن دون انقطاع، وخيوط الدخان الأبيض تتلوى بين أصابعه، وذكرى الأمس تعتصر فؤاده، يجترها في كمد وصمت. |