الأستاذ المساعد الدكتور علي حاتم خليل فرج الجامعة العراقية / كلية الآداب يُعدُّ النَّحت ظاهرة من الظواهِر اللغوية الّتِي ترتبط بحياتنَا اليومية وَذلك عَنْ طريق الاختصَار وَالإيجَاز وَالسرعة فِي الكلام من أَجل كسب الوقت ، أَو رُبمَا يصعب عَلَى بعض الأشخاص الفصل بَيْنَ كلمتين أَو أَكثر وردت فِي ذهنه دفعة واحدة فيلجأ إلى ظاهرة النَّحت. وَعليه فإنَّ الاهْتِمَامْ بأي ظاهِرة لغوية هُوَ الاهتِمَام باللغةِ ذاتِها الّتِي من خِلالهَا يتمُ التواصل وَالتفاهم بَيْنَ الشعوب. وَهِيَ ليست لغة تواصل فحسب بَلْ هِي لغة فكر وَثقافة رائعة تحمل فِي طياتهَا قوة فِي الأَداء وَالتعبير. فالنَّحت فِي اللغة : من الفعل (نحت) والنُّونُ وَالْحَاءُ وَالتَّاءُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى نَجْرِ شَيْءٍ وَتَسْوِيَتِهِ بِحَدِيدَةٍ، وَنَحَتَ النَّجَّارُ الْخَشَبَةَ يَنْحَتُهَا نَحْتًا. وَيقال النَّحْتُ: النَّشْرُ والقَشْر، ونَحَتَ الجبلَ يَنْحِتُ، وَفِي قوله عزَّ وجلَّ فِي سورة الشعراء ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ﴾. وَالنَّحت فِي الاصطلاح : « أخذ كلمة من كلمتين متعاقبتين، واشتقاق فعلٌ منهمَا». وعرف أَيضًا «أن تعمد إلى كلمتين أَو جملة فتنزع من مجموع حروف كلماتهَا كلمة فذَّة تدلُّ عَلَى مَا كانت عليه الجملة نفسهَا، وَلمّا كَانَ هَذَا النزع يشبه النَّحت من الخشب وَالحجارة سمي نحتًا. وَقيل فِي تعريفه « أَن تأخذ كلمتَان، وَتنحت مَنْهُمَا كلمة تكون آخذة مَنهَا جميعًا . وَبناءً عَلَى مَا تقدم يعتبر النَّحت وَسيلة من وَسائل التيسير وَالتخفيف وَذلك عَنْ طريق الاختصار وَالإيجاز وَالاختزال ، إضافة إلى تنمية اللّغة العربيّة وَتجديد أَساليبهَا . وَسمي النَّحت بالاشتقاق (الكُبَّار) بضم الكاف وتشديد الباء ، وَمَا يميز النَّحت عَنْ الاشتقاقات الأَخرى أَن الكلمة مشتقة من كلمتين أَو أكثر أَي نزع كلمة من كلمتين أَو أَكثر، وَالغرض الرئيسي من النَّحت كَمَا أَشرنا سابقًا هُوَ الاختصار وَالاختزال عَنْ طريق اختيار الحروف الأَولى من كل كلمة أَو أَشهر حروفهَا بخلاف الاشتقاق الَّذِي يتكون من كلمة واحدة واستحضار معنى جديد مثل بحر ، رحب، برح، ربح. وَيُعدّ الخليل بن أَحمد الفراهيديّ، هُوَ أوَّل مَنْ أَكتشفَ ظاهرة النّحت فِي اللّغة العربيّة إذ سلط الضوء عَلَى الحروف التِي لا تأَتلف مَعَ بعضهَا البعض بسبب تقَارب الحروف أَو تباعدهَا فعلى سبيل المثال الحروف الحلقية المتقاربة المخارج لا تأَتلف مَعَ بعضهَا البعض إلا بوجود فاصل بينهمَا أَو أَن يتقدم حرف عَلَى حرف آخر فِي الترتيب قال الخليل : « العين لا تأتلف مَعَ الحاء فِي كلمة واحدة لقرب مخرجيهما، إلا أنّ يُشتَق فعلٌ من جمع بَيْنَ كلمتين مثل (حَيْعَلَ ) إِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى «فهذه كلمة جمعت من (حي) ومن (على)، فبنيت من الكلمتين كلمة واحدة، وأطلق عليهَا الخليل النَّحت، فإذا وجدت كلمة من ذلك فهذا بابه أَي أَنه لا يوجد كلمة تجمع بين الحاء والعين إلا إذا كانت من كلمتين منحوتتين كَمَا فِي الحيعلة. وَبَيّنَ ابن فارس أَن أكثر الكلمات التِي جرى عليهَا النَّحت من الرباعي وَالخماسي بقوله «اعْلَمْ أَنَّ لِلرُّبَاعِيِّ وَالْخُمَاسِيِّ مَذْهَبًا فِي الْقِيَاسِ، يَسْتَنْبِطُهُ النَّظَرُ الدَّقِيقُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا تَرَاهُ مِنْهُ مَنْحُوتٌ» . من ذلك يتبين أَن العلماء وَضعوا القواعد وَالقوانين من أَجل التخفيف وَالتيسير وَتجنب الثقل . إنَّ ظاهرة النَّحت كَمَا هُوَ معلوم تحتاج إلى درجة عالية من الذوق وَالحس العربي وَالألفة فِي الاستعمال أَي شيوع العبارات وَالمركبات المنحوتة فِي عملية حذف الحروف وَاختزالهَا من الكلمتين المنحوتة وضرورة الانسجام، وَقد قيّد التهانوي مسأَلة الذوق بأن «الحاكم النافد هُوَ الحسّ العربي الّذِي لَهُ سليقة فِي الفصاحة، أَو كاسب الذوق السليم من ممارسة التكلّم بالفصيح وَالتحفظ عَنْ التكلّم بغير الفصيح ، لذا فإنَّ عملية النَّحت ليس بالأَمر السهل كَمَا يظن البعض ، فعلى سبيل المثال هناك بعض الأَلفاظ العربيّة المعاصرة غير مأَلوفة فِي الاستعمال قَد تؤدي إلى الالتباس لدى كثير من الأشخاص كاختزال الحروف الأولى من كل كلمة مثل (شمعة) يقصد بذلك (شبكة المعلومات العربية التربوية) أَو كلمة (إرادة ) بمعنى (اتحاد رجال الأَعمال للدعم والتطوير) بخلاف الكلمات المأَلوفة فِي الاستعمال مثل (حوقلة) بمعنى ( لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) وَ(البسملة) بمعنى: (بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ) .وَمن الألفاظ العربيّة المعاصرة المأَلوفة فِي الاستعمال (عقبالك ، عقبالكم ) منحوتة من العقبى لك ، وَالعقبى لكم، وَفِي اللهجة الجزائرية كلمة (كيراك ، كيراكم) منحوتة من كيف حالك وكيف حالكم ، وكلمة (زمكاني) منحوتة من زمان ومكان ، وكلمة (درعمي) منحوتة من دار العلوم. وَمن الألفاظ العلمية المتداولة فِي الاستعمال (كهرومائي) منحوتة من كهرباء وماء، وكلمة (مُجَوْقل) منحوتة من منقول جوًا وَيقال قوات مُجَوْقلة أي منقولة جوًا ، وكلمة (أَورومتوسطي) منحوتة من أَوربي وَمتوسطي... وَقَد وردت فِي العربية الكثير من التراكيب المعروفة والمشهورة فِي كتب اللّغة ، وَمَع ذلك مَا زلنَا بحاجة إلى ظاهرة النَّحت فِي وقتنا الراهن نتيجة التطور الحضاري السريع، وَكثرة المصطلحات ، وَلكن وفق الضوابط وَالقوانين اللغوية ؛لأنَّ اللّغة العربيّة كائن حي يتطور وَيتكاثر وَيتجدد فهي لغة تأَبى أَن تشيخ. |