عبد الرحيم العلام حظي الشاعر المغربي محمد بنيس بعديد من اللقاءات الاحتفائية به وبتجربته الإبداعية، داخل المغرب وخارجه. وقُدّر لي، في الفترة الأخيرة، أن أحضر لمناسبتين احتفاليتين كبيرتين بهذا الشاعر، احتفاء من الجهتين المنظمتين بعطائه الإبداعي والفكري، وتقديرًا لمواقفه تجاه القضايا المصيرية لأمته العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وذلك على مدى عقود زمنية خلت، من الحضور والكتابة والتأليف والتدريس والنشر والمشاركة والسفر والمواقف والوفاء. كانت إحدى تلك اللحظات الاحتفالية الكبرى، بمناسبة تكريم الشاعر محمد بنيس من قبل أكاديمية المملكة المغربية، في حفل بهيج أقيم بمقر الأكاديمية بالرباط، في بادرة اعتبارية نبيلة من هذه المؤسسة الوطنية تجاه شاعر مغربي، ساهم، بشكل لافت ومؤثر، في تحديث القصيدة العربية وتجديدها، بكتاباته الشعرية المبدعة، وبأبحاثه الفكرية والنقدية المضيئة، وببياناته الرائدة، وأيضا بكتاباته النثرية العميقة وترجماته الدقيقة والشاعرية، منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم. وهو الاحتفاء الذي أقيم بمناسبة تخليد اليوم العالمي للشعر، والذي كان بنيس مهندسه الأساس. أما اللحظة الاحتفائية الأخرى، فكانت بمناسبة تكريم بنيس، من لدن دولة فلسطين هذه المرة، بالنظر لمكانة هذا الشاعر الاعتبارية عربيًا، وتقديرًا لحضوره الإنساني والرمزي والنضالي والثقافي والإبداعي، فكانت، هي أيضًا، لحظة اعتراف كبيرة ومستحقة من فلسطين الأبية، ومن أعلى سلطة في الدولة، بهذا الشاعر العربي، وبمواقفه الراسخة تجاه قضية فلسطين، قضية الإنسانية الأولى. وقد تشرفت بتلقي دعوة من سفارة دولة فلسطين بالرباط، للمشاركة في هذا الحفل الكبير، فقدمت خلاله شهادة في حق الصديق الشاعر محمد بنيس، حاولت فيها إبراز معنى أن تكرمك فلسطين وتحتفي بك في بلدك، هذه الفلسطين التي عودتنا دائمًا على أن تختزل فيها العالم كله، بمثل ما تختزل التاريخ والذاكرة والوجدان والأسطورة ورمزية الأشياء... وفلسطين، إذ تكرم بنيس، فهي، في الأصل، إنما تكرم أفقًا إنسانيًا وإبداعيًا وجماليًا ونضاليًا وأكاديميًا رحبًا وصافيًا وصادقًا، وطافحًا بالكثير من المعاني والدلالات؛ أفقًا سيظل ممتدًا فينا جميعًا، قد لا تسعفنا العبارة دائما للتعبير عنه؛ إذ ما فتئنا نمتلئ به، بمثل ما تغمرنا كتابات محمد بنيس وأشعاره وأبحاثه ومواقفه ومقالاته وبياناته، بالدهشة والجرأة والجدة والرقة والأناقة والعذوبة والحب والبلاغة والصدق والصفاء والحكمة والكياسة، من منطلق أن شاعرنا ظل وفيًا للمبادئ وللقيم الإنسانية الرفيعة التي تربى عليها، وآمن بها، وظل مدافعًا عنها إلى اليوم، بمثل وفائه الاستثنائي لهذه الفلسطين الأبية، بكل ما يحمل هذا الوفاء من شحنة قيمية وأبعاد إنسانية ورمزية ممتدة فينا، وغير محدودة في الزمن، وقد صارت فلسطين وطننا الجماعي، على حد تعبير شاعرنا. ولا غرابة في ذلك، ما دام الوفاء لفلسطين متأصلًا في شخصية شاعرنا ومترسخًا فيه منذ يفاعته، وليس أمرًا طارئًا عنده، أو مرتبطًا بسياق متغيرات عابرة، هو المولود في عام النكبة، عام «الزلزال الذي لم يسكن بعد» على حد تعبيره، فظلت فلسطين، يقول شاعرنا، هي الحضن العربي الذي وضعت رأسي فيه وأنا مراهق. فأن يكرَم الشاعر محمد بنيس من قبل فلسطين، في سياق الاحتفاء باليوم العالمي للشعر، معناه أن روح شاعرنا تتواجد باستمرار في صلب المصادفات الكونية الجميلة. ففلسطين الشامخة وهي تنبت في تل الربيع، إذ تحتفي بشاعرنا، فهي إنما تحيي من وهب الشعر يومه الكوني، وشيد له «بيته الشعري» الرمزي، وغرس «أركانته» المثمرة. وفلسطين، من خلال احتفائها بشاعرنا، عبر توشيحه بواحد من أرفع الأوسمة الفلسطينية (وسام الثقافة والإبداع والفنون)، إنما تريد أن تشكر بنيس بطريقتها الخاصة، على كونه انتصر دائمًا للشعر، بمثل ما انتصر لقضيتها الكونية، فحملها معه أينما حل وارتحل، ولتشكره، أيضًا، على كونه ظل دائمًا ولا يزال حاضنًا للأفق الثقافي والإبداعي الفلسطيني، وعلى أنه آوى «درويشًا» في المحمدية، حتى يتفرغ لكتابة ملحمته الخالدة عن الوطن، هو الذي خلق صوتًا موازيًا لمجلة «الكرمل» هناك في أرض «الأقصى»، فكانت مجلة «الكرمل» هناك، صوتًا آخر للأقصى هنا، فحين منعت «الثقافة الجديدة»، هنا، في المغرب، انبرت «الكرمل» لتحتضن ملفًا عن «الثقافة المغربية»، كان من المفروض أن ينشر في مجلة «الثقافة الجديدة»، قبل أن تطالها يد المنع. استضاف الشاعر محمود درويش ذلك الملف في مجلته، مقدّمًا بذلك الحجة على أن المقاومة الحقيقية لا تتم على جبهة واحدة، بل على عدة جبهات، يقول بنيس، فـ»كانت «الكرمل» من جهتها تجد في هذه الإبداعات والكتابات المغربية جانبًا من شخصيتها التي تبحث عنها، ووجهًا من الثقافة التي نريد لها أن تصبح متداولة في الحياة الثقافية الفلسطينية، بل وفي الحياة الثقافية العربية عمومًا»، كما يضيف بنيس. ولم يتوقف الترحيب الفلسطيني به عند هذا الحد، حيث إن «مجلة الشعراء» الفلسطينية، كانت، بدورها، قد خصصت ملفًا لشاعرنا، في أكثر من 500 صفحة، احتفاء به صوتًا للشعراء المغاربة. وفي الطرف المقابل للاحتفاء، ما فتئ محمد بنيس يواصل دائمًا حضوره الثقافي والرمزي، في جميع الضرورات المستعجلة والمناسبات المتاحة عن فلسطين، في كتب جماعية وفي منابر ثقافية، ويكفي أن نذكر، هنا، بعضها فقط، من قبيل كتاب «فلسطين ذاكرة مغربية»، من إصدار وزارة الثقافة المغربية، ومجلة «الدراسات الفلسطينية»، في ملف عن «فلسطين في مرايا الثقافة العربية». وفلسطين اليوم، إذ تبادل شاعرنا المحبة بالمحبة، فلأن أفقه الإنساني الرحب ظل كونيًا وصادقًا، وفي صلبه ظلت فلسطين شامخة ومتوهجة ومتلألئة، بمثل ما ظل شاعرنا مدافعا عن شموخها بكل حرص ومسؤولية ورغبة واستماتة، أليس هو من قال: «كنا شعراء نقف لأجل فلسطين، لا نعبأ بما يمكن أن يقودنا إليه وقوفنا»، ليواصل طرح الأسئلة، لتتسع وتشمل الشعر والثقافة والفكر والحداثة والحرية والديموقراطية، ولتنفتح على النقد والمغامرة، فظل شاعرنا، من خلال ذلك كله، منتصرًا للحداثة في اللغة وفي الشعر والثقافة والحياة في مجتمعاته العربية، وفي كتاباته وحواراته المضيئة، كما في فوضاه الجميلة واحتمالاته الكثيرة، بعيدًا عن أي تبعية سياسية فجة، بمثل ما ظل مدافعًا عن النبوغ المغربي بكل استماتة، بعيدًا عن أي انتهازية مقيتة. وفي الطرف الآخر للفرح، عودتنا فلسطين على كرمها، وعلى امتدادها الأبدي في وجداننا، فهي الأم التي عودتنا دائمًا على أن تحتضن أبناءها، هنا أو هناك، في حياتهم وحضورهم ووفائهم، وفي تمثلهم النضالي لقضايا الوطن والتاريخ والذاكرة والأرض والحرية والحلم والصراع والوجود. ويبقى محمد بنيس، في هذا الباب، في طليعة الكتاب والمثقفين المغاربة الذين اهتموا بفلسطين، وذلك منذ يقظة وعيه السياسي أثناء فترة الشباب، ونشاطه الطلابي في الجامعة، وبعيد هزيمة 1967، حيث أصبحت فلسطين حاضرة في حياته وفي أفقه العربي، وأيضًا من منطلق وفاء خاص لفلسطين ولأصدقائه الفلسطينيين، في أشعاره ومقالاته ونثرياته ومواقفه المشرفة، المناهضة للاستيطان، وللهجرات اليهودية إلى فلسطين، وللتطبيع، ولصفقة القرن، ولتدشين مقر السفارة الأميركية في القدس، ولغيرها من التحولات العاصفة التي عرفتها القضية الفلسطينية، على مدى تاريخها وصراعاتها من أجل التحرر والحرية. لجأ شاعرنا إلى جمع الكثير مما كتبه هو وغيره عن فلسطين، في كتاب بعنوان «فلسطين: ذاكرة المقاومات» وداخل هذا الأفق الإنساني والرمزي والثقافي الممتد في محمد بنيس وفينا جميعًا، فقد لجأ شاعرنا إلى جمع الكثير مما كتبه هو وغيره عن فلسطين، في كتاب بعنوان «فلسطين: ذاكرة المقاومات» (في 424 صفحة من القطع الكبير، 2021)، والصادر في صيغة «تأليف متعدد»، إثر الإعلان عن «صفقة القرن»، في كونها «الفصل المؤدي إلى المتاه في برد عزلة عربية ودولية»، يقول محمد بنيس، وأيضًا إثر ما تواجهه فلسطين من محو لذاكرتها ولاسمها من اللغات، بما فيها اللغة العربية، وهو ما جعل محمد بنيس يشرك نصوصًا أخرى في هذا الكتاب، الذي أهداه إلى صديقه القديم عبد الكبير الخطيبي، هذا المفكر المغربي الذي كان له تأثير كبير على بنيس، منذ 1970، لما كان طالبًا في كلية الآداب بفاس؛ إذ حصل أن زار محمد بنيس الخطيبي بالرباط بدعوة منه، وكانت فلسطين مدار حديثهما، حيث طلب الخطيبي، الذي كان يتهيأ لتأليف كتاب «الوعي الشقي الصهيوني»، من الشاعر الشاب أن يمده بوثائق فلسطينية... فجاء إهداء الكتاب لعبد الكبير الخطيبي. ونصوص هذا الكتاب منسوبة لأدباء ومفكرين وعلماء ومؤرخين وفنانين، فضلًا عن نصوصه هو، التي تمتد على أزيد من أربعين سنة، وكلها مساهمات قام محمد بنيس بجمعها وانتقاء مقاطعها ونصوصها التي يفرضها سياق الكتاب، من مؤلفات عديدة، قديمة لجغرافيين ومؤرخين، من قبيل: ياقوت الحموي، وابن حوقل وابن خلدون، وحديثة لمبدعين ومفكرين كثر، من المغاربة: عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وإدمون المليح، ومن بعض البلدان العربية: غسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي وإدوار سعيد ووليد الخالدي وإلياس صنبر وهشام شرابي ومريد البرغوثي ومعين بسيسو، والأجنبية: فرويد وبرنار نويل وجان جينيه وأنجيلا ديفيز ومكسيم رودنسون وجيل دولوز ونعوم تشومسكي، وغيرهم، ممن «لهم مكانتهم الاستثنائية في الدفاع عن رؤية منفتحة وعادلة للحق الفلسطيني»، جعلهم بنيس جميعًا، في كتابه، يطلون على فلسطين وعلى الشعب الفلسطيني، في «ليل الدعاية الصهيونية المتوارثة»، في مساهمة منه لأن تبقى ذاكرة فلسطين حاضرة، في الذاكرة الثقافية المتعددة، وذلك من منطلق أن دعم القضية الفلسطينية ومناصرتها، في نظر شاعرنا، «ظلا محصورين في الجوانب السياسية والمادية والمقاومة المسلحة، سابقًا»، وهو ما يستلزم، في نظره، «تنبيه كل من يناصرون فلسطين، اليوم، إلى أن البعد الثقافي للمقاومة سيدعم الرؤية النقدية إلى الصهيونية وسياسة إسرائيل التوسعية والتطهير العرقي للأرض الفلسطينية...». ففي كتابات بنيس الشعرية، كما في مقالاته وحواراته، تحضر فلسطين، باعتبارها إحدى كبريات المآسي الإنسانية في القرن العشرين، وأيضًا باعتبارها، يقول شاعرنا، قضية شعب عربي يتعرض للتطهير العرقي، ويواصل رغم ذلك مقاومته، غير متنازل عن حقه في الوجود، متمسكًا بالحرية والاستقلال، فكانت أول قصيدة كتبها محمد بنيس عن فلسطين بعنوان «موسم الصفات»، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، لتتوالى بعدها كتاباته الشعرية والنثرية عن فلسطين، ومشاركاته في اللقاءات التضامنية معها، وتزايدت مواقفه المدافعة عن حقها في الأرض والحياة والوجود، واتسعت علاقاته وصداقاته مع كتابها ومفكريها وفنانيها ومنابرها الثقافية... فظل بذلك محمد بنيس دائمًا حاضرًا في صلب القضية الفلسطينية، مدافعًا عنها، ومنبهًا غيره إلى تطورها، وإلى تراجعها المخيف على صعيد الاهتمامات العربية بها.ولم تتوقف اهتمامات محمد بنيس بالقضية الفلسطينية عند هذا الحد، بل نجده يواصل الكتابة عنها، سواء ضمن مشاريع شعرية ذاتية أو مشتركة، بما في ذلك ترجمته لنصوص لصديقه الشاعر برنار نويل، نشرها في كتاب بعنوان «الموجز في الإهانة»، وغيرها من مقالات بنيس التحليلية عن القضية الفلسطينية، واستعاداته النوستالجية لفلسطين الذاكرة والمكان والمستقبل، فضلًا عن مواصلته الحوار مع الطلبة الفلسطينيين، ممن يشتغلون في حقل الشعر الفلسطيني، إلى جانب تعاونه مع أصدقاء مغاربة مناضلين على تأسيس جمعية المقاطعة الأكاديمية والثقافية والفنية والرياضية لإسرائيل، وغيرها من أشكال الاهتمام بفلسطين، والتي يقبل عليها بنيس «بدون بطولة أو مساحة ورد» كما يقول.
|